أعلان الهيدر

الجمعة، 18 أكتوبر 2019

الرئيسية الأدب الجزائري والتصوف.

الأدب الجزائري والتصوف.





بقلم : نوارة لحرش

* كاتبة من الجزائر.
تُرى كيف هي العلاقة بين الأدب والتصوّف. وكيف هو الخطاب الصوفيّ في الأدب الجزائري، وهل يمكن الحديث عن ظاهرة صوفية في الأدب الجزائري وفي الكتابة الجزائرية، ومُقاربتها ودراستها أو الإشارة إلى وجودها وحضورها. وهل حقاً أنّ الصوفية، أو الصوفية الأدبية وخطاباتها تتجلّى في الشّعر أكثر من الرواية أو السرد عموماً؟ وما الّذي يجعلها أكثر حضوراً وتجلياً وإخصاباً في النصوص الشِّعرية عكس النصوص السردية.

حول هذا الشأن “الأدب الجزائري والتصوّف، وكذا ظاهرة التصوّف في الكتابة الأدبية”. استطلعت الميادين الثقافية آراء بعض المُختصين والمُهتمين بالأدب الصوفيّ والمُشتغلين في حقله، في محاولة لمُقاربة العلاقة بين الأدب والتصوّف. ومدى حضور الخطاب الصوفيّ في الأدب الجزائريّ، وغيرها من الإشكالات ذات الصلة بهذا المحور.
الباحث والناقد عبد الحميد ختالة، يرى أنّ التصوّف تعلّق في أوّل الأمر بحال من التعبّد يبلغها المُتعلّق بربه، وهي الحال ذاتها أو ما يُقاربها تلك التي يتحلّى بها الأديب الصوفيّ، مُضيفاً “لعلّه ليس غريباً أن نقول بأنّ حال التصوّف الأدبي في الجزائر لها مساحة من الحضور يمتد تاريخياً إلى التصوّف الّذي قرأناه في شِعر الأمير عبد القادر الجزائري، فإذا كنا قد عرفنا قبلاً بأنّ للتصوّف مُتكآن الأوّل هو الزهد والثاني هو الحب الإلهي، فإنّ الأمير قد تمثلهما معاً في شِعره، وقد منح شِعره الصوفيّ رغبة لدى لاحقيه بأن يقتحموا هذا المجد الشّعريّ”.
ختالة، واصل مُستدركاً “أقول مجداً شِعريًا لأنّي أجد الأدب الصوفيّ حالة أسمى من الخيال يرتقيها الشاعر، ربّما تجاوز مهارة شياطين الشّعر في أنواع الشّعر الأخرى وأغراضه، ولعلّي أعضد ما أذهب إليه بالمستوى الفني الراقي الذي نقرأه في قصيدة رباعيات آخر الليل من ديوان (البرزخ والسكين) للشاعر عبد الله حمادي، وكذلك ديوانه الثاني (أنطق عن الهوى)، إذ يتكثّف المعنى ويتفاعل اللفظ البشري بالحضور المقدّس للحب الإلهي فيولد النص من رحم الرّوح لا من رغبات الفكرة”.
يذهب ختالة في رأيه إلى أنّ الشّعر الصوفيّ يروم إلى الإنعتاق من الدنيوي فيَرْشَح بنفحات الرّوح ويفيض الرمز الصوفيّ فاتحاً المجال لقارئِه بأن يُمارس تأويل الصوَر والتراكيب، مُوسّعاً في دائرة النقاش والحوار بين النصّ والقارئ، في محاولة جادّة من هذا الأخير للتموضع داخل القوسين، على حدّ رأي إبن عربي بأنّ المتصوّف داخل القوس الأوّل وغيره ما دون القوس الثاني.
للشّعر الصوفيّ، حسب ختالة دائماً، مرجعيته في الأدب الجزائريّ وله كذلك مستقبله الجميل، خاصة وهو يُعالج الجانب العرفاني والروحي معاً في الذات البشرية.
مؤكداً ومستشهداً في ذات المُعطى، أنّ ما قدّمه الشاعر الجزائري ياسين بن عبيد في دواوينه (أهديك أحزاني) و(معلّقات أستار الرّوح) و(غنائية آخر التيه) إضافة نوعية للقول الشّعري الصوفيّ.
ففي ديوانه (الوهج العذريّ)، كما يقول ختالة، امتزاجٌ جميل بين الارتقاء الصوفيّ والاحتراق الشّعري على دأب شيوخ الصوفية، إذ يعدّ الوهج العذري تجربة شِعرية صوفية قوية سواء من جهة اللّغة أم من جهة الاختراق الصوفيّ ونضج التجربة.
وخلص ختالة، إلى أنّ الصوفية في الشّعر، أكثر حضوراً وأكثف ملمحاً، منها في السرد. وهذا يعود إلى مدى رحابة وقدرة الشّعر في امتصاص الرّوح الصوفية ونفحاتها، أيضاً لأنّ الشّعر له علائق ووشائج قُربى وتلاحُم مع الصوفية.
من جهته، يرى الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي، إنّ الأدب يعدّ في علاقته بالتصوّف من أعقد الإشكالات على أساس أنّ التصوّف في جوهره حقيقة تُعاش، وتجربة يستشكل فيها التعبير وإنتاج خِطاب الذات، لأنّ (الحال) أقوى من أن تحتويه اللّغة، ولهذا انفصل في التصوّف التصوّر للغة الحال عن لغة المقال، واكتنف الغموض الخطاب الصوفي انطلاقاً من الانفصال بين الحال والمقال.
وأضاف “ومن هذا الجانب تحديداً حين نُقارب العلاقة في توظيف الأدب للتصوّف، نستطيع أن نكتشف بكلّ سهولة أنّ الأدب الصوفيّ ليس ذاك الذي تكثر فيه المصطلحات الصوفية، لأنّه بالنسبة لي التصوّف تجربة فردية قائمة على المُمارسة، وفيها يتداخل الذاتي بالمعنوي بالموضوعي بالكوني، وتنسج تلك العلاقة القائمة في الجوهر المُشترك بين الوجود والذات والمُتمثلة في المحبّة، فالتصوّف ليس معرفة لأنّه حينذاك سوف يبدو أكثر سطحية وبرودة عند البوح عن كينونة الحال الذي هو سفرٌ في مسالك المقام”.
بن جلولي وفي حديثه عن حضور التصوّف في الأدب الجزائري، أوضح “يبدو لي أنّه لا يمكن أن نبني المدخل لعلاقة الأدب الجزائري بالتصوّف من دون التأصيل لتجربة أبي مدين الغوث والأمير عبد القادر الجزائري، لأنّهما بنيا الوسيلة التعبيرية التي يحتاجها الوجدان الصوفيّ على التجربة التي لا تتحصّل سوى بالممارسة، ومنه انبثقت أصول الخطاب الصوفيّ الّذي يتكئ على الغياب في حضور المقام وانتشال لوعة الذوق بما يجري على اللسان، وبالتالي يكون الخطاب الصوفيّ أقل تجلياً، وهو العابر حسب معاناة المتصوّف من التخلّي والتحلّي إلى التجلّي، في النص المنفصل صاحبه عن التجربة”.
صاحب رواية “على الرمل تبكي الرياح” ذهب إلى ما يشبه التأكيد على أنّ الخطاب الصوفيّ يتجلّى في الشّعر أكثر من أي نوع آخر من الأدب، حيث قال “لعلّ الخطاب الصوفيّ يتجلّى بوضوح في التجربة الشّعرية، وذلك لتحقّق الارتباط التاريخي بهذا الجنس الأدبي، وربّما يكون للتجربة الفردية في كلّ من الشّعر والتصوّف علاقة بذلك التحقّق، لأنّ الشّعر سهل التعالق بما هو كوني، ولذا لم يقطن الحلاج أتون الوعي الإسلامي تحديداً بل جال أرجاء التجربة الإنسانية في شموليتها، وكذلك الأمير عبد القادر، والشّعرية الجزائرية حافلة بالمنجز الصوفيّ داخل مستوياتها التعبيرية، ونذكر محمّد العيد آل خليفة، محمّد بلقاسم خمار، مصطفى الغماري، ياسين بن عبيد، عبد الله العشي، وعثمان لوصيف المحترق داخل أتون التجربة الصوفية، والمُلاحظ أنّ كثيراً من هؤلاء الشعراء عايشوا الرّوح الإسلامية للتصوّف”.
ووفق بن جلولي فإنّ هذا “لا يعدم الإحساس بالذوق الصوفيّ في بعض التجارب السردية، ولعلّني أجد تلك التي قاربت الصحراء أقرب إلى فيوض التجربة الصوفية على أساس الامتداد الّذي يبعث الهجرة والعزلة التي تُحقّق الخلوة والسكون الباعِث للتأمّل، فالكاتب السعيد بوطاجين في روايته (أعوذ بالله) يستأثر ببهجة الخطف حين يقول على لسان السارد: (أنا حفيد البلاغة، لذا يمّمت شطر الصّحراء)، وأيضاً لحبيب السايح يرسم خيطاً أنيقاً شفافاً للحب حين يذكر في روايته (تلك المحبّة): (أدرار لا تسكن قلبي، ولكن تلك هي المحبّة).
بن جلولي خلص في الأخير إلى ما يشبه القناعة في هذا الشأن، قائلاً “يبدو لي أنّ المعيار في الكشف عن الجوهر في العبارة الصوفية في سياق النص هو التجربة، فالجملة التي ينمحي شكلها ويذوب المعنى فيها وتتجلّى كالصدى، فلا يبقى رسمٌ لكلمة ولا معنى لخطاب، فقط يتجلّى ذلك كله في صدى يخترق المتلقّي ليجده كحال يرتقي به هو الآخر إلى مقام الذوق، (ومن ذاق عرف)، تلك قد تكون عبارة تفجّر خطاباً صوفياً”.
أمّا الباحث والأكاديمي عبد القادر العربي، فيرى أنّ الصوفية مُعايشة من الداخل، وهذا ينعكس على النصوص، سواء كانت شعرية بدرجة أكبر أو سردية بدرجة أقل.
فقد اعتبر أنّ الصوفية والكتابة الصوفية تجربة لغوية أيضاً ونوعية، حيث “تعدّ التجربة الصوفية تجربة لغوية ونوعية إذ نرى من خلال النصوص في كلّ الإبداعات محاولة الكُتّاب للتمرّد على اللّغة العادية، لأنّها غير قادرة على استيعاب المعاني والمشاعر والأفكار الصوفية العميقة، فاللّغة في حالاتها العادية تعدّ عائِقاً لا يقوى على التعبير وغير قادرة على الإيفاء بكلّ المعاني، فهي تعيق تجربتهم الفريدة، الخاصة ولذا نرى هذا الصنف من الكُتّاب يرسم مساراً يستعين فيه بالرموز، وهي ظاهرة قديمة في الكتابة الأدبية وجديدة مع النصوص الحديثة والمُعاصِرة وتبقى مُرافِقة للكتابة ما دامت تنقذ الكاتب ليتوارى وراء الرمز ويعبّر عن أفكاره بكلّ حرية في عوالم قد تخضع لدى المتلقّي إلى التأويلات ولكنّها لا تقوى على الفَهْم المُطلق”.
في حين أن الصوفية هي تجربة تعبّر عن متعة فنية تستقطب كلّ مَن يتمتّع بهذه الروحانيات العميقة، لِمَا لها من جماليات لا مُتناهية، لأنها “تجربة عرفانية تجري وراء الزمن الفيزيقي، وعليه لا يمكن لأيّ مُبدِع أن يُحقق النجاح في هذا المجال من الكتابة، فقد يفشل البعض في صناعة هذا الفضاء وهو إخفاق مردّه إلى عمق التجربة واتّساع آفاقها مِمَا جعل الشاعر أو الروائي يقف حائِرا أمام هذا العالم الروحاني المليء بالمُدهش والعجيب، سواء على المستوى الإبداعي أو على المستوى السلوكي الخاص لهذه النخبة”.
لذا كان التقليد أحياناً هو العلامة داخل النصوص المعاصرة، تقليد يستحضر الماضي من النصوص، لأنّ أصحابها لم يتمثلوا التجربة الصوفية كما تمثلها أصحابها الأصليون، ولم يدركوا معنى المُعايشة، بل نجد أحياناً نصوصاً شِعرية لا علاقة لها بهذه التجربة ويصنفها النقّاد على أنّها تجربة صوفية، وفق العربي.
ويخلص العربي إلى أنّ هذا النوع من التجارب هو في الحقيقة “إشكالية يُعاني منها النص الأدبي المعاصر بصورة واضحة، وكأنّ التجربة الصوفية نصٌ مُغلَق ودهاليزٌ غامِضة لا يوجد بها إلاّ المصطلح، أمّا الحال فتبتعد عن المعاني الحقيقة لأسرار التجربة الصوفية والتي تظل بنمطية خاصة لا يقوى على تفعيلها إلاّ من خبر أسرارها”.
(عن : "شرق وغرب" اللندني)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.