أعلان الهيدر

الخميس، 5 مارس 2020

الرئيسية غريد الشيخ في "حوار مُتَخَيَّلٌ مع فدوى طوقان"

غريد الشيخ في "حوار مُتَخَيَّلٌ مع فدوى طوقان"






حوار مُتَخَيَّلٌ مع فدوى طوقان
بقلم: غريد الشيخ


*كاتبة ، ومؤلفة معجمية ، وناشرة ، "منبر أدباء بلاد الشام " ـ لبنان.





سألتها: هل يبحثُ الأطفال عن الحب و..؟
قالت: نعم، إذا كان القلب جافًّا ظامئًا فإنه يسأل الحياة عن دفقة من نبعة حب.. اسمعي:
(تُحِبُّني؟ تاريخُها عندي قديم
قبلك من سنين، من سنين نشدتها،
بحثت عنها في طفولتي
نَشَدْتُها إذ كنت طفلةً حزينة مع الصّغار
عَطْشى إلى محبّةِ الكبار
وكنت أسمع النّساء حول موقد الشّتاء
يروون قصّة الأمير إذ أحبّ بنتَ جاره الفقير
أَحَبَّها؟ وترعشُ الحروف في كياني الصّغير
إذًا هناك حبّ؟
هناك مَن يُحِبّ؟ مَن تُحَبّ؟
وكان قلبي الحزين، قلبي الصّغير،
ينطوي على جفافه، على ظماه
ويسألُ الحياة عن دفقةٍ من نبع الحبّ
وكانت الحياة..
بخيلةً، بخيلة، أوّاه ما أقسى تعطّشَ الصذغار
حين ينضب الحنوّ في الكبار
حين لا يُسقى الصّغار قطرة من نبع حب..)

قلتُ: شوقٌ إلى الحبّ، يصلُ بك إلى درجة أن تتمنّي أن تعيشي تجربة عروة وجميل وقيس بفرحها وألمها..
قالت: نعم قرأتُ قصص الحبّ كلّها، فعرفت عروة الحزين بحبّه، وعشت قصص قيس وجميل.. أحببت حتى العذاب الذي يشعر به هؤلاء، اسمعي ما قلت:
(وحين فتحتُ براعمي وأمرعَ الصِّبى وضُمِّخ الجواءُ بالعبير..
عَرَفتُها في شعر "عروة الحزين"
وعشتُها في شعر قيس في رؤى "جميل"
كم هزَّني تَدفُّقُ الشّعور في قلوبهم..
كم عشت حبَّهم، حنينَهم، عذابهم..
كم قال لي قلبي الحزين:
ما أسعد الأحبابَ رغم ما يكابرون
كم يغتني الإنسانُ حينما يعرف أن هناك من يحبّه
كم يغتني ولم يكن هناك مَن يحبّني...)

قلتُ: فدوى طوقان الأديبة الشّاعرة ابنة العائلة العريقة لم تجدْ مَن يحبّها؟
قالت: وُلدت في نابلس، وعشت عمري ضمن تقاليد خاصَّة بأسرتي.. كانت نفسي تتوقُ إلى الحرية، لتمارس حقَّها في الحب والحياة.
قلت: فانصرفتِ إلى الشّعر؟
قالت: نعم انصرفتُ إليه لأعبّرَ عن طريقة عن كلّ خلجات نفسي الحزينة.. كتبت عن آلامي وأحلامي.. عن نفسي الظَّامئة إلى الحرية.
قلتُ: واكتفيتِ بالشِّعر للتَّعبير عن مشاعرك الطَّبيعية؟
قالت: أحسستُ أنني محبوسة في إطار التقاليد القديمة الموروثة، فانقسمت شخصيتي إلى شخصيتين: شخصيتي الأولى هي التي عبَّرتُ عنها في شعري، أما الثانية فهي التي استسلمتُ عبرها للحياة الاجتماعية.
قلت: وشخصيّتك الأولى كيف نمت وترعرعت؟
قالت: لقد أخذ أخي إبراهيم طوقان بيدي لأعبرَ إلى حريّتي.. إنَّه المَثَلُ الأعلى للسلوك الرّجولي، فقد بذل لي من نفسه دون أن ينتظر مقابلًا، حبّه هو الحبّ الوحيد الحقيقي في حياتي.
قلت يومًا في قصيدة (تاريخ كلمة):
(وعاد من غربته أخي الكبير، عاد إبراهيم،
كان قلبه الرحيم خيّرًا كبيرًا، وفيض حبّه غزير..
ولفَّني أخي وضمّني إلى جناحه، هنا استقيتُ الحبَّ وارتويت
هنا استردَّت ذاتي التي تحطّمت بأيدي الآخرين بناءها،
هنا اكتشفتُ مَن أنا.. عرفت معنى أن أكون..)

قلتُ: وبدأتْ قصصُ الحبِّ عندك تتوالى..
قالت: إنّني أحبُّ الحبَّ لذاتِه، وأُنكرُ على نفسي ألاَّ تُحِبَّ، الحبُّ هو المُتَنَفَّسُ الوحيد الذي يُشعرُني أنّني مازلت أعيش، إنّه الهواء الذي أتنفّسه والماء الذي لا غنى لي عنه.
قلت: ودائمًا الحبيب بالنسبة إليك هو شقيق الرّوح، ونجده دائمًا يشبهك في فهمه لهذه العواطف الكبيرة التي تحملينها.
قالت: يُشْبِهُني نعم.. ويكون المولود هو شِعري الذي أكتبه عند كل قصّة حبّ.
قلت: كما الأشعار التي كتبتِها عندما أحببتِ الشاعر المصري إبراهيم نجا؟
قالت: كان لهذا الحبّ أروع الأثر في شعري وأدبي.
قلت: ولماذا فشلَ هذا الحبُّ؟
قالت: لأسباب اجتماعية طبعًا، فالتقاليد في عائلتي لا تسمح للفتاة بأن تتزوّج إلا من الأسرة نفسها، أو من البلد، أي فلسطين.
قلت: قيودٌ تُكَبِّلُ الرّوح وتقاليد تكسر الجناح!!
قالت: وأثمرت هذه القصة بعض أروع قصائدي، وأنجبت رسائل محمّلة بالحبّ والإلهام..
قلت: وماذا عن الحبّ؟
قالت: إنه المهرب الوحيد من سجني، أما الحزن فقد أصبح الينبوع الوحيد لكل أشعاري:
(كان لي الحبُّ مَهربًا أحتمي به
إليه أفرُّ من مأساتي
كان دنيا في أفقها الرَّحْب أسترجعُ حرّيتي
أُحقّقُ ذاتي
يا لقلبي الموتور كم رَنَّحَتْهُ
نشوة الانتقام من جَلّادي
وأنا في مشاعر الحبّ غرقى
وهو خلف الأبواب بالمرصاد
أَبوسْعِ السّجون خنق الأحاسيس
وقتل الحياة في الأعماق؟
من يصدّ الشّلّالَ عن سيره الكاسح
عن اندفاعه الدّفّاق؟)

قلتُ: وعند فشلِ حبٍّ تروحينَ تفتّشين عن بقايا صور في داخلك..
قالت: فلا أجدُ إلّا الفراغ وسؤال واحد غريب: هل أحببتُك يومًا؟ وكيف، وكيف تلاشى الهوى واندثر؟.. اسمعي ما قلته مرّة عند انتهاء قصة حبّ:
(لقيتُكَ أمسِ لكن عينيّ أنكرتاك
فلم تعرفاك...
ورحتُ أُسائِلُ قلبي عنك
وهل مرَّ حقًّا عليه هواك..
تلمّستُ جدرانَه علَّ فيها
بقايا ظلالٍ، بقايا صُوَرْ
فما نَبضَتْ من غَرامِكَ ذكرى هناك،
ولا لاحَ منه أثر
أحقًّا أحببتك يومًا؟ وكيف؟
أم كنتَ طَيفًا بحلمٍ عَبَرْ؟
وهب كنتَ طيفًا تعشقه
فكيف تلاشى الهوى واندثر؟
أما مِن بقايا؟
أما من أثر؟
تذكّرتُ كنتُ رفعتُكَ يومًا إلى قِمَمي الشّامخات المُضيئة
وقد ضاع وجهُكَ بين زحام الوجوه بأفق حياتي المليئة..)

قلتُ: كثيرة هي الوجوه التي تتلاشى مع الأيام، ويغيب أصحابها ويتلاشون.
قالت: ورغم ذلك لو عدنا صغارًا فإننا نعود إلى حماقاتنا القديمة نفسها:
(لو أنّي رجعتُ صغيره
لو أنّي رجعت وملء يديَّه تجارب عمري وخبراته
وما لقّنَتْني الحياة الكبيرة
وما علَّمَتْني السُّنون الكثيرة
لَعُدْتُ برغمي لأخطائِيَه
ونفس حماقاتيه
لكنت أُواجِهُ نفسَ المصير ونفس الضّياع
وذات الحبال تروح تلفُّ على كتفيّه
وتمضي تحزُّ وتقسو عليه
وما من خلاصٍ، وما مِن مَفَرّْ..)

قلتُ: لكن ما سبب هذا الفشل المتكرّر في كل قصّة حبّ تعيشينها؟
قالت: عندما لا يستطيعُ الحبُّ أن يبني، فإنّه حبّ فاشل حُكم عليه بالموت، إنه مجرد استغاثاث غريق بغريق، اسمعي:
(الهوى كان ملاذًا وهروب
من ضياعي وضياعك
كان لاستقرار نفس لقيت نفسًا وروح
عانقت روحًا لإرساء قلوب
الهوى كان لِنَبني ولنعطي
خيرَ ما فينا
لا ليفنينا
ويحيل النّور والخصب ظلامًا ورمادًا
في أغانينا..
انتهينا يا رفيقي
حبُّنا كان استغاثات غريقٍ بغريق
لم تكن تملكُ لي شيئًا ولا كان لديَّ لك شيء
أنت تدري، لا تسلْ عن حبِّنا
نحن حاولنا ولكنّا فشلنا
أسفًا، ماذا غنمنا
غير غصّات أسانا وجراح الأغنيات؟)

قلت: وغير السأم.. كيف يكون الوقت الذي مرَّ مع الحبيب وقتًا ضائعًا؟
قالت: عندما تحسّين فجأة أن هذا الحبيب غير جدير بالحب، فيكون النّدم الصادر من أعماق الجراح:
(كم يسألون
لمن ترى تُنشدين
هذي الأغاني النّاعمات الحنون
دافئةً مشرقةً كالضّياء
مثقلةً بالعطاء
ومَن هواك الكبير
هذا الّذي تسفحين
وتبذلين
له كنوز الشّعور
من ذاتك المليئة الخَيِّرَة
مِن روحك النَّضيرة المُزْهِرة
لعلّه أطيب إنسان
لعلّه أجدر إنسان
بكلّ هذا البذل، هذا السّخاء
وأُخفِضُ الطَّرفَ وأبقى على صمتي المريب
غامضةً لا أُجِيبْ
لكنَّ صوتًا ساخرًا في ألم
مُنبعثًا من قلب جرح النّدم
ينصبُّ في أغورايَ المُبْهَمَة
مُرَدِّدًا في غنّة مُفعمَة
بالهزء.. بالضّحك الحزين المرير
لعلّه أطيب إنسان
لعلّه أجدر إنسان
بكلّ هذا البذل هذا السّخاء
واخجلي!!
واخجلي لو أنّهم يعلمون
ما أنتَ أو من تكون!)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.