"حوار مُتَخَيَّل مع إبراهيم طوقان"
بقلم: غريد الشيخ.
*منبر أدباء بلاد الشام ـ لبنان.
وضعتُ
رأسي بين يديّ ورحت أفكّر بحزن، وحضرني بيت شِعر كنّا نردّده دائمًا:
(قُمْ
للمعلّمِ وفِّه التّبجيلا
كاد المُعَلّمُ أن يكون رسولا)
ربّتتْ
يدٌ برفقٍ على كتفي.. رفعتُ رأسي فرأيته يبتسم لي، قلتُ مُرَحِّبة:
إبراهيم
طوقان؛ الشّاعر الكبير.. أهلًا بك.
قال:
لماذا أنت حزينة؟
قلتُ:
حزينة.. بل مستاءة ممّا وصلنا إليه اليوم..
قال:
حقّك أن تستائي، نحن كذلك عشنا حياتنا كلّها بحزن وأسى على هذه البلاد.
قلت:
تصوّر أيَّ حالٍ مُزْرِيَة وصلنا إليها.. التَّعليم في أزمة حقيقية، والبلاد
والعباد..
قال
مُطَيِّبًا خاطري: التَّعليم، أو بالأحرى المتعلّمون منذ أيامنا كانوا في أسوأ
حال، وكان المعلّمُ ومازال ضحيّة الشّعارات الزّائفة.
قلت:
وشوقي؟ ألم يقلْ..
قاطعني:
وماذا يعرف أمير الشعراء عن التّدريس والطلّاب، إنَّ شوقي يا عزيزتي لم يُدَرِّسْ
مرّة، ولا عاشر الطلاّب، فلا يحقّ له أن ينظِّر من بعيد، لقد رددتُ عليه بقصيدة..
قاطعتُه:
قرأتُ قصيدتك مرّات عديدة، لكن أريدك أن تقرأها لي.
قال:
حسنًا، اسمعي:
(شوقي يقولُ وما دَرى بمصيبتي قمْ للمعلّمِ وفِّهِ التَّبجيلا
اقعدْ فديتُكَ هل يكونُ مُبَجَّلًا مَن كان للنّشءِ الصّغار خليلا
ويكادُ يَفلقُني الأميرُ بقولِه كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
لو جَرَّبَ التّعليمَ شوقي ساعةً لَقَضَى الحياةَ شقاوةً وخُمولا
حَسْبُ المُعَلّمِ غُمَّةً وكآبةً مَرأى الدّفاترِ بُكرةً وأصيلا
مئة على مئة إذا هي صُلِّحَتْ وجدَ العمى نحو العيونِ سبيلا
ولو أنّ في التّصليح نفعًا يُرتجى وأبيك لم أكُ بالعيون بخيلا
لكنْ أُصَلِّـحُ غلــطةً نحـويّةً مثلًا وأتّخذُ الكتابَ دليلا
مستشهدًا بالغُـرِّ من آياتِـه أو بالحديث مفصّلًا تفصيلا
وأغوصُ في الشّعر القديمِ فأنتقي ما ليس ملتبسًا ولا مبذولا
وأكادُ أبعثُ سيبويه مِن البِلى وذويه مِن أهل القرون الأُولى
فأرى حمارًا بعد ذلك كلّه رفَعَ المُضَافَ إليه والمفعولا
لا تعجبوا إن صحتُ يومًا صيحةً ووقعتُ ما بين البنوك قتيلا
يا مَن يريدُ الانتحارَ وَجَدْتَه إنَّ المُعَلِّمَ لا يعيشُ طويلا)
قلت:
أحسنت.. لكنّ أزمة عدم الفهم هي ناحية من النّواحي التي تُعَذّبُ المُعلّم وتقلقه.
لكن ما بالك لو عرفتَ أننا، اليوم، لم نعد نحن فعلًا المعلّمين، لقد حلَّ محلّنا
معلّمون جُدُد.
قال
مستغربًا: مُعَلّمون جُدد!!
قلت:
نعم.. السّياسيّون.. تَصوَّرْ أنَّ طلاّبنا الأعزّاء يحفظون كلَّ لفظة ينطق بها
زعيمٌ، ويحفظون أيضًا ما ردَّ عليه زعيمٌ آخر، طبعًا الشّتائم والألفاظ السّوقيّة
التي باتوا يستعملونها في حياتهم اليومية، ويتناقلونها بالهاتف المحمول.
قال
ساخرًا: إذًا، فالسّياسيون يقومون بدور تعليميّ كبير ويساعدونكم.
قلت:
طبعًا طبعًا، فليس من كلمةٍ في قاموس الهجاء والشّتائم وقاموس الحيوان إلا ويحفظها
سياسيّونا، وطلّابنا أيضًا.. ناهيك عن دور الأهل التعليميّ.
قال
مؤكّدا: طبعًا للأهل دورٌ مهمّ.
قلت
مؤكّدة ساخرةً: نعم، فالأهلُ عندنا يبدؤون بتعليم أطفالهم منذ الصِّغر إلى أي فئة
ينتمون، وما هي طائفتهم ومذهبهم، ويعلّمونهم أيضًا أنَّهم مقصودون بالإبادة،
ويحرّكون عندهم الغرائز المذهبيّة، التي تجعلهم متوفّزين دائمًا ضدّ الآخر، الذي
سيطردهم يومًا أو يرميهم في البحر كما يدّعون.
قال:
إنّها مأساة حقيقيّة أن يتحوّلَ أبناء الوطن الواحد إلى جماعات تتّهم بعضها وتخوّن
بعضها.
قلت: هذه
حالنا منذ فترة طويلة.. لم نعد نعرف معنًى للوطن ولا للإنسان، تداخلت المفاهيم..
قال:
إذًا، ليس ذنب هؤلاء الطّلّاب كبيرًا؟
قلت:
لا.. إنَّه ذَنْبُ القادة والسّياسيين الذين يُسقِطون من حساباتهم أن هناك أجيالًا
جديدة تتأثَّر بهم، فلا يراعون حرمة، ويقتحمون بيوتنا وجلساتنا غصبًا عنا،
ويتحفوننا كلّ يوم بنغمة جديدة.
قال:
أمّا نحن فقد عشنا نوعًا آخر من المشاكل، عاصَرْنا سماسرةَ البلاد وبائعيها
والمُتاجرين بها، اسمعي:
(أمَّا
سماسرةُ البلادِ فعُصْبَةٌ عارٌ
على أهلِ البلاد بقاؤها
إبليسُ
أعلنَ صاغرًا إفلاسَه لمَّا
تحقَّق عنده إغراؤها
يتنعَّمون مُكرَّمين كأنَّما لِنعيمِهم عمَّ البلادَ شقاؤها
همْ أهلُ
نجدِتها وإن أنكرتَهم وهمو
وأنفُكَ راغمٌ زعماؤها
وحُماتُها
وبهم يتمُّ خرابُها وعلى
يديهمْ بَيْعُها وشراؤها
ومنَ
العجائبِ إنْ كشفتَ قدورهم أنَّ
الجرائدَ بعضَهنّ غطاؤها
كيف
الخلاصُ إذا النّفوسُ تزاحمَت أطماعُها
وتدافعتْ أهواؤها)
قلت:
إنّها مشاكل الأمّة نفسها، هاهم السّياسيون في بلادنا يبيعونها من أجل ملء جيوبهم
بالمال وكأنهم سيأخذونها معهم، حتى إنّ بعض وسائل الإعلام تقوم بتغطية أعمال
السّياسيين لمصالحهم الخاصة.
قال:
طبعًا، لأنَّ الإعلام هو جزء من اللّعبة السّياسية، وهو إعلام مأجور ومرتهن إلى
جهة معينة، فلا بد أن يحارب بسيف هذه الجهة ويدافع عن معتقداتها وقيمها.. اسمعي ما
قلت يومًا:
(أَنتَ
كَالاحتلال زَهوًا وَكِبْرًا
أَنتَ كَالانتداب عُجْبًا وَتِيها
أَنتَ كَالهجرة الَّتي فَرضوها لَيسَ مِن حيلةٍ لقومك فيها
أَنتَ أَنكى مِن بائع الأرض عندي
أَنتَ أَعذاره الَّتي يدَّعيها
لَكَ وَجهٌ كَأَنَّهُ سمسار عَلى شَرط أَن يَكون وَجيها
وَجَبين مثل الجَريدة لَما لَم تَجد كاتِبًا عَفيفًا
نزيها
وَحَديث فيهِ ابتِذال احتِجاج كُلَّما نَمَّقوه عادَ كريها
جَمَعت فيك عصبة لِلبَلايا وَأَرى كُلَّ أُمّة تَشتَكيها)
قلت:
حسنًا، دعنا من حديث المعلّمين والسّياسيين وسماسرة البلاد، ولنتكلّم عن الحب:
قال: ليت
الحبَّ هو الحاكم الوحيد على هذه الأرض، لوجدت النّاس غير النّاس، ولما بقيت مصالح
ضيّقة، ولزالت الحروب والأحزان.
قلت:
فنصبح كما قال شاعرنا الكبير محيي الدين بن عربي:
(أَدينُ
بِدَينِ الحُبِّ أَنّي تَوَجَّهَت
رَكائِبُهُ فَالحُبُّ دَيني وَإيماني)
قال: ليت
الجميع يؤمنون بهذا القول، فننسى آلامنا وأحزاننا، ونسقط بين أيدي الهوى الرّحيمة،
اسمعي:
(كَيفَ
أَغوَيتني وَأَمعَنت صَدّا يا
حَبيبًا أَعطى قَليلًا وَأَكدى
وَدَّ
قَلبي لَو يَجهل الحُبّ لَمّا أَن
رَآه يَحولُ سَقمًا وَوَجدا
وَشَكَت
أَضلُعي مِن القَلبِ نارًا هَل
عَهِدْنَ الهَوى سَلامًا وَبَردا
طَلَعَ
الفَجرُ باسِمًا فَتَأمّل
بِنُجوم الدُّجى تَرنَّحُ سهدا
هِيَ
مثلي حَيْرى وَعَمَّا قَريب
تَتَوارى مَع الظَّلام وَتَهدا
لَكَ
حَمَّلْتُها رِسالةَ شَوقٍ
وَعِتاب أَظنّها لا تَؤدى
جَمعَ
اللهُ في مُحَيّا حَبيبي أُقحوانًا
وَياسمينًا وَوَردا
وَابتِسامًا
لا يَهجرُ الثّغرَ إِلّا عِندَ
قَولي لَهُ أَتُنْجِزُ وَعدا
لا
عَرَفتُ الوَفا وَلا كانَ وَعدٌ
يَجعَل البَسمةَ الوَديعةَ حِقدا)
قلت:
لكنّ الحبّ عندك تعرّضَ للمدّ والجزر، فأنت في قصيدة ثانية تريد أن تقتل الهوى
وتدفنه في ضلوع السّنين وتردّ الرسائل إلى المحبوبة.
قال:
لكنني رغم هذا أناديها أن تأتي ولا تغدر بي:
(وَداعًا
سأَقتلُ هَذا الهَوى وَأَدفنُه في
ضُلوعِ السّـنين
أَردُّ
رَسائِلَكِ الباكيات فَرُدّي
رَسائلَ قَلبي الحَزين
وَلَكن تَعالَي أَلم تغدري
وَداعًا
سَأَسحقُ تِلكَ المُنى وَأَنسفُها
بَدَدًا في الفَضا
سَأَهزَأ
بِالعشق وَالعاشقين وَأَذهب
مُستهترًا بِالقَضا
وَلَكن تَعالَي أَلم تغدري
وَداعًا
وَهَيهات أَن نَلتَقي فَما أَنا
بَعدُ المُحبُّ الحَبيبْ
أَطيعي
ذَويكِ بِما يَشتَهون فَإِنّ لَهُم
فَوقَ حَقِّ الغَريب
وَلَكن تَعالَي أَلم تغدري)
قلت:
حسنًا، قبل أن نفترق أريدُ أن أسمعَ منك أمانيك ومناشدتك للوطن الجميل، بأن يكون
مُنَعَّمًا غانمًا مُكَرَّمًا، لأنّ هذه الأمانيّ هي أمنياتنا أيضًا لأوطاننا:
(موطني
الجَلالُ وَالجَمالُ السَّـناءُ
وَالبَهاءُ في رُباك
وَالحَيــاةُ وَالنَّـجـاةُ
وَالهَناءُ وَالرَّجاءُ في هَواك
هَــل أَراك
ســالمًا مُنَعّمًا وَغانـِمًا مكرَّمًا
هَــل أَراك في عُــلاك
تبـلغ السِّماكْ
مـوطِــني
مَوطِني
الشّبابُ لَن يَكلَّ همُّهُ أَن
تَستقلَّ أَو يَبـيد
نَستَـقي
مِن الرَّدى وَلَن نَكون
لِلعِدى كَالعَبيد
لا نُـريـد
ذلُّـنا
المُؤبَّـدا وَعَيشــنا
المُنكَّــدا
لا
نُــريـد بَـل
نـــعـيــد
مَجـدَنا التَّلـيـد
مَــوطــنـي
مَوطِني
الحسامُ وَاليَراعُ لا الكَلامُ
وَالنِّزاع رَمزَنا
مَجدَنا
وَعَــهـدنا وَواجب إِلى الوفا
يَهزُّنا
عِـزُّنــا
غايـةٌ
تُشـرِّفُ وَرايــةٌ
تُرَفـرفُ
يا
هَـنـاك فـي عُـلاك قاهِــرًا عِـداك
مـوطــني)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق