الشاعر محمد شريم في قصيدة " إكليل المجد "
الإنتماء النبيل للأرض والسماء
بقلم : فرحان الخطيب.
*شاعر وأديب من سورية.
بكل
ثقة بالنفس وبالمخاطب ، وبدون مقدمات تقود إلى نتاىج يتوقعها ، يخاطب الشاعر محمد
شريم العروس المتوجة بإكليل المجد: " أنت العروس "، إنها ماثلة أمام
عينيه بكل ما تحمله من ألق وبهاء ، راسخة القدمين ، مزدانة بعراقة التاريخ ، تجرّ
ذيل الخيلاء والكبرياء خلفها ، تحفّهُ القرونُ الغابرة ، ويزينه الزمان والدّهرُ
اللذان حاكا هذا الإكليل وشكّلاه بما يمتلكان من سحر وإتقان ، فكانت جواهره من
شعاع الفجر ، ونقاء الضحى ، وصهيل الجياد، وباذخ الحسن والجمال ، ويدهشنا الشاعر
بوصف هذا الإكليل المكتنز بالمفاخر والأمجاد، ولايطول بنا التفكير ليضعنا أمام
العروس الجامعة للمحاسن والآلاء الفاتنه ،
وليعتز أيما اعتزاز حين ينطق باسمها مفاخراً الملأ بمدينته التي عاش ما مضى من
حياته فيها، ومازال ، إنها " بيت لحم " العربية الفلسطينية ، يقول:
أنت العروسُ لتلبسي
الإكليلا
فالمجدُ جمّلَ درّهُ
تجميلا
رسم الزمان عليه سحرَ خيالهِ
وعليه أبدع دهرك التشكيلا
يا بيت لحم أبثّ فيك صبابةً
شعراً يساجل لحنه
الأرغولا
بعد
أنْ يُتحفنَا الشاعر بهذا الوصف البهي الذي يليق ، ويؤنسن المكان بعروس فارهةِ
الجَمال ، ويصوغُ لها من مفردات الذات والوجدان شعراً يتمايس لحناً وإيقاعاً مع
موسيقاه المنبعثة من نفس علوقة بمائها وترابها وهوائها ، فتنبثق مشاعره وأحاسيسه ،
فيطلقها كنافورة صاعدة بشلال الشعر الراقي
، وتظهر خبيئات شعوره زهوراً فواحة على أغصان أبياتها الشعرية ، فتحمل لنا ضوع
تفكيره ببلدته ، مايتناسب مع علاقة علم النفس بالشعر ، والذي متحت هذه الأبيات من
معينه ما هو واضح وجلي ، يقول :
والنفس رفت في رباك
فراشةً
والناس نَحْوكِ كالفراش وصولا
فإذا ظننتُ هواي فيك
تفرّداً
أدركتُ كم لي في
الأنام مثيلا
والشاعر هنا لم يعبر عن مدى هواه لبلدته بحالة فردية ، بل
تعدى ذلك إلى حالة جمعية ، وبذا يزيد من احتفاء
الناس على كثرتهم بهذه العروس المدينة الخليقة
بالتأمل والدهشة والافتتان ، وللناس
بها مهوى أفئدة وطيب
مقام ، لسريان محبتها وعشقها في
أوردتهم، ولا عجب في ذلك
لما لها من
مكانة تتوضع على شغاف
القلوب ، يقول :
ولم التعجبُ إن أسرت
عيونهم
وقرأت فيها
لهفة وميولا
وركبتِ أجنحة
النفوس برقة
وحللتِ منها
بالوريد حلولا
وكأني بالشاعر محمد شريم بعد وصفه لمدينته بالعروس ، وذكر
تعلقه والآخرين بها نفسياً ، ينتقل بنا وببراعة ويسر ، إلى فكرة أخرى رآها من مآثر
هذه المدينة الخالدة ، فيعرّج إلى بوّابة السّماء العالية ، ويقف أمام مهابتها
سائلاً متسائلاً ، ومؤملاً ومتأملاً ، يقف بكل ما امتلك من روحانية اللحظة المنيرة
الواصلة بين الأرض والسماء ، يبحث وهو العارف الموقن والكاشف لسرّ الصفاء الإلهي
الذي تجسد وتجلّى بولادة السيد المسيح على ثراها ، لطهارة أرضها ، ولأهليتها بحمل
هذه الرسالة السامية الخالدة ، المتمثلة في البشارة و الهداية والرشد للخليقة
جمعاء ، فيقول :
أوَ لستِ مَنْ هدتِ الخليقةَ حينما
أمست تلاحق
أفقها المجهولا
شاء الإله لك
استعادة رشدها
فرسمتِ أنت و لحالها
تبديلا
وحين يتساءل المرء يدرك كم غيّرت دماء الفادي عليه السلام من مكنونات
النفوس البشرية، وحملتها من ظلمة انتشرت واستبدت إلى معارج النور والمحبة ، ماجعل
الشاعر شريم يستوحي معانيه الروحانية من نصوص الإنجيل المقدس ، الذي ورد فيه :
" إنّ الله محبة ، ومن
يثبت في المحبة فإنه يثبت في الله ، والله يثبت فيه " فيقول :
حين ارتضاك الله أرض طهارة
فأتتك مريم للمخاض
بتولا
فانبث نور في
المغارة ساطع
لينير كوناً مظلماً وعقولا
سار المسيحُ
وقد تقدّمَ ثلةً
بالبشر يحملُ دونَهـــا
قنديلا
ليعلن بعدها أن مدينته بيت لحم ، وبفضل رسالة الهداية اصبحت
دار تعايش وسلام بين الناس، متقاطعاً
ومتوافقاً قوله من كلام يسوع عليه السلام :
" أما الآن فهذه الثلاثة
باقية ، الإيمان والرجاء والمحبة ، ولكن أعظمها المحبة
"
وقوله : " ونحن نحب لأن الله أحبّنا أوّلاً "
ليقول الشاعر بعد ذلك في هذا المنحى :
وغدوت أرض المهد دار تعايش
حتى وإن قرع الغزاة طبولا
كم جاء ساحك خائف
فأجرتهٍ
وحضنتِ في ظلّ الأمان نزيــلا
وإذا غدت " بيت لحم " دار تعايش وأخوة ووئام بفضل
الرسالة اليسوعية ، والدعوة التي حملتها وبثتها بين الخليقة ، فإنها أيضا دار سلام
بالرسالة السماوية التي جاء بها رسولنا العربي محمد (ص ) عبر كتاب الله المنزل ،
القرآن الكريم ، و رحلته القدسية ويعني بها ليلة الإسراء والمعراج ، فيقول :
وأتاك من بعد المسيح محمدٌ
يتلو الكتاب مرتلاً
ترتيلا
حمل السلام
برحلة قدسية
فوق البراق مصاحبا جبريلا
وإذا
كان الرسالة اليسوعية دعت إلى التعايش بالمحبة ، " وإذا لطمك أخوك على خدك
الأيمن فأدر له خدك الأيسر "، فإن القرآن الكريم أيضاً دعا الدعوة نفسها ،
وهل هناك تناقض فيما يرسله الله إلى البشر ؟ بطبيعة الحال ، لا ، فقد جاء في محكم
تنزيله: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وشاعرنا محمد شريم حمل هاتين
الموضوعتين ، واستلهم روحهما من الرسالتين السماويتين القرآن والإنجيل ، واللتين
تمثلتهما مدينة الشاعر " بيت لحم " وبثهما في قصيدته أبياتا مفعمة
بخمائل الأنس والمحبة والسلام ، وعبر عن مشاعره تجاه المدينة التي حباها الله بفيض
نوراني وافر السطوع ، وشعب يتمثل المبادىء والقيم والمنقبات الدريّة الوهاجة التي
ترصع مجد إكليلها العالي الذي حمل الجوهر الإلهي في مفاهيم العقل البشري .
وقبل أن يختم الشاعر ، يطل علينا بالمقطع الرابع شغوفا بالطفولة ، وحالما
بجيل المستقبل ، الذي نشأ في مدينته على الأخلاق التي وهبها الله لمن عاش على
أرضها الطهور، متوسماً بهم عزة البلاد بطموحهم واجتهادهم ، ودفاعهم عنها في
الملمات والخطوب ، وبذل أرواحهم فداء لها ، ونيلهم المراتب العليا بالعلم ، وهو
يدرك أن الأمم لا تتقدم إلا إذا امتلكت سلاح العلم والمعرفة ، وهولعمري إدراك واعٍ ونبيل يستشرفهُ الشاعر عبر أحلامه
المستقبلية لوطن ، وطن يراه في عيون صغاره ، يقول :
رضعً الصغارُ بكِ
انتماء صادقاً
فأبوا لروضك في
الجنان بديلا
أعظم بهم حين
اعترتك نوائب
كم سطروا معنى الفداء
فصولا
العلم غايتهم ورفعة
أمة
تاقت إلى المجد التليد
طويلا
ولهم بأحلام السلام
حمامة
ملأت رياض العالمين
هديلا
فأبناءُ " بيت لحم " على الرغم من نخوتهم وغيرتهم
وكفاحهم تجاه عزة أرضهم والذود عنها، على الرغم من ذلك هم من يحلم بالسلام ،
ويتوقون إليه ، ويعملون لأجله .
يختم
الشاعر في المقطع الأخير ، بأمنياته لمدينته بأن يبقى نجمها ساطعاً ، لايعرف
الذبول والأفول ، يتفيأ ظلالها ، ويحقق أحلامه على ثراها .
القصيدة
اكتنزت بعاطفة جياشة ، وتلفعت بغلالة من المحبة التي أضفاها الشاعر على قصيدته،
مختاراً لها " الكامل " الذي يمتلك المساحة الشاسعة للتعبير ، ويحمل
الجرس الموسيقي المتناغم من ذات الشاعر المسترسلة في الوصف ما زاد وأضفى على أدائه التعبيري الرونق الخضيل ، حملته قافية
لينة مطواعة مقيدة ومطلقة بآن ، حيث حلّ الروي حرف اللام وهو حرف لثوي مجهور ، بين
حرفي مد ساكنين ، الياء والألف الساكنة ، " دليلا " وتارة الواو والألف
الساكنة " رسولا " ما يحمل القارىء على الاستمتاع بهذه القافية التي تشع
منها خيوط النور والمحبة والسكينة والسلام ،
وقد أشبع واحة القصيدة بشميم المعنى الذي تمايل سلساً ومنساباً بفيض من
الشاعرية المتماسكة في المبنى من حيث المفردات الجزلة والواضحة بآن ، فلم يَجُلْ
في غريب اللغة وخشونتها ، ولم يبحث عن مفردات معجمية ليوقظها من سباتها، بل جاء
بلغة واضحة حمّالة لهواجسه ، نابضة بأحاسيسه ، ودفاقة بمشاعره الحافلة بالاحتفاء
بموضوعته الرّاهجة بين يدي قصيدته وهي بلدته " بيت لحم " من خلال الصور
المبثوثة في ثناياها ما تطلب الأمر وجودها ، فلم يقسر خياله على اصطيادها كيفما
اتفق ، بل جاءت ترفُّ وتحلق بسماء
القصيدة كالطيور في مواسمها المعتادة ، ما
أتاح لأفكاره الوصول إلى المتلقي عبر مباشرة مقصودة ، كي لا تضيع وتضل طريقها بين
الغموض والإبهام .
وهكذا
يكون الشاعر محمد شريم قد استجمع أركان القصيدة وعناصرها وأفكارها الخمسة بجسد
يحمل الهيبة والوقار والنبل والوفاء ، يطوّف بها عنوان شامخ دال عليها كما يدل
الرأس وإيماءاته على كينونة الإنسان ، وبهذا يكون الشاعر قد أهدانا قصيدة خليلية
ومعاصرة بآن محتشدة
بالانتماء لعشق الأرض ولقيم السماء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق