الوفاء والحنين في قصة" الرمانة"
للكاتب الفلسطينيّ محمد شريم
بقلم : الدكتورة روز اليوسف شعبان.
*كاتبة وناقدة فلسطينية.
قصّة "الرمانة" هي قصّة شعب هجّر
من وطنه حاملا معه الذكريات والحسرة والألم والحنين.
"أبو منصور" في الثمانينات من
عمره يقرّر زيارة قريته المهجّرة مع ولده "منصور" الذي سُمِحَ له للمرة
الأولى بمغادرة المعبر الفاصل بين مدينتي بيت لحم والقدس، فيركبان مع "أبي
ياسمين" صديق منصور الذي يحمل "الهوية الزرقاء" ويعمل مقاولا داخل "الخط
الأخضر".
في
الطريق يسترجع "أبو منصور" صورا لطفولته في القرية وتحديدا مع جدّه حين
زرع معه شجرة الرّمان بجانب البيت، وقد رعى الشجرة واعتنى بها عناية فائقة وشاهدها
تكبر أمام عينيه وتزهر وتثمر. وحين أوشكت القرية على السقوط تحت نيران القذائف حمل
سكّانها ما خفّ حمله من ماء وخبز وزبيب وتين مجفّف وغادروا القرية لتبدأ رحلة
التهجير والاغتراب. أما "أبو منصور" الذي كان طفلا فقد تعلّق بحبّة الرّمان
التي أراد قطفها لكن والده أمسك بيده وأخذه معه، وبقيت "الرّمانة" في
نفس الطفل الذي أصبح عجوزا.
وعندما وصل "أبو منصور" وابنه و"أبو
ياسمين" إلى القرية المهجرة وتجوّلوا فيها، ورأوا ما حلّ ببيوتها من هدم
وتدمير، توجّهوا إلى بيت "أبي منصور" وهناك شاهد شجرة الرّمان التي طُمِرَ
جزء كبير منها وبقيت فروعها تتحدّى الدّمار وتنبت من بين الصخور وتحمل الرّمان.
بكى العجوز بحرارة حين رأى الرّمانة إذ رأى
نكبته ونكبة شعبه جليّة أمام ناظريه. وفي غمرة مشاعر الحزن والفقد، يحضر بعض رجال
الشرطة للتّحقيق معهم بعد أن قدّم شاب وفتاة بلاغا عن وجود أغراب في المكان.
يقنع السائق "أبو ياسمين" رجال
الشرطة أن "أبا منصور" وابنه قدما معه للتنزه فقط وليست لديهم أيّة
أهداف أخرى. فيغادر الثلاثة المكان بعد أن رفض "أبو منصور" قطف حبة الرّمان
بقوله:" لم يحن وقت قطفها بعد".
من خلال هذه القصة يصف لنا الكاتب محمد شريم
مشاعر الألم والشوق والحنين التي تعتري
الشيخ "أبا منصور" بسبب نفيه وإبعاده عن وطنه قسرا، وهو الذي عاش معظم
سنين عمره بعيدا عن مسقط رأسه وبعيدا عن شجرة الرّمان التي زرعها مع جدّه وبقيت
تدغدغ ذكرياته وتثير فيه الحنين والشوق.
يقول "ادوارد سعيد" عن المنفى:"
المنفى حالة دائمة من الغربة والابتعاد والإقامة في الهامش، فالمنفى انقطاع عن الأرض الصلبة التي كانت توفّر للمرء
الهويّة وصلابة الإحساس بالأمن والطمأنينة؛ ذلك أنّ المنفيّين "مقطوعون عن
جذورهم، وعن أرضهم وماضيهم ". (سعيد، 2004، ص177).
التقنيات السرديّة: يعتمد الكاتب شريم في سرد قصّته على الرؤية السّرديّة من الخلف: " يتميّز السّارد
فيها بكونه يعرف كلّ شيء عن شخصيّات عالمه، بما في ذلك أعماقها النفسانيّة.(بوطيّب 1993، ص 72)والسّارد في قصّة "الرّمانة" هو السّارد
العليم الذي يحرّك الشخصيّات ويكشف لنا عمّا يعتلج في نفوسهم من أحاسيس وأفكار
ومشاعر..
كما اعتمد كاتبنا "محمد شريم" في سرده على تقنيّة
الاسترجاع، ويعني الرجوع بالذاكرة إلى الوراء البعيد أو القريب، وقد قام الشيخ "أبو
منصور" بالعودة إلى الماضي ليرى مشهدا مؤثّرا من طفولته وهو يزرع شجرة الرّمان مع جده ويسقيها
بإبريق الماء. كما سيتذكر لحظة القصف على قريته وهدم بيوتها وخروج جميع السكان
منها، لكنَّ أكثر مشهد أثار حرقته، هو مشهد حبّة الرّمانة التي اشتهاها وأراد
قطفها لكنّ والده منعه من ذلك فلا وقت لإضاعته وعليهم الهرب قبل أن تصيبهم
القذائف.
تخلّل سرد الرّواي حوارا بين الشخصيّات، وقد
دلّنا هذا الحوار على ملامح كلّ شخصيّة، طرق تفكيرها، معتقداتها، وأسلوبها في
مواجهة الصعاب. فنجد مثلا شخصيّة السائق شخصيّة مسالمة، تؤمن أن للأوروبيّين فضلا
في زراعة الغابات في بلادنا والتأثير على جمال البلاد، في حين يرى الشيخ "أبو
منصور" عكس ذلك تماما ويعطي مثالا جميلا لإقناع السائق بقوله له:" هل
تعرف ما الذي فعله هؤلاء الغرباء بهذه الجبال؟ لم يفعلوا أكثر مما تفعله الماشطة
بالمرأة الجميلة، وفي كثير من الأحيان تسدي لها معروفًا إذا تركت المرأة بجمالها
الطبيعيّ كما خلقها الله". أما شخصيّة الابن "منصور" فبدت شخصيّة
داعمة للوالد، متفهمّة لرغباته واحتياجاته، وهو رمز للابن المطيع المحبّ
لوالده والمساند له.
اللغة:
اللغة في القصّة هي الركيزة الأولى والأهمّ لبنائها الفنّيّ، فهي تصف
الشخصيّة أو تُمكّنها من وصْف شيء ما. واللغة هي التي تحدّد غيرها من عناصر
الرواية وتبنيه، كحيّزَيِ الزمان والمكان. واللغة، أيضا، هي التي تحدّد الحدث
وتبنيه، ذلك الحدث الذي يجري في هذين الحيّزين. تميّزت اللغة في قصة "الرّمانة"
بسلاستها وشاعريّتها، وقد تخلّلتها تعابير مجازيّة ووصفيّة جميلة
مثل:" أوغل في كهف الذاكرة وهوى بها إلى وادي الزمن السحيق"، "
منصور يتنسّم الهواء الذي يتناهى إليه مندفعا إلى الوراء" ،كما تخللّت اللغة
تعابير تدلّ على الألم والحسرة والنكبة مثل: "هيا يا بنيّ سيتجدّد القصف على
القرية بعد قليل"،"أدركت تحت وطء النكبة أنّني بمغادرة القرية لم أكن قد
خسرت حبّة الرمان فقط، وإنما فقدت أرضي ومورد رزقي وهويتي وأهلي وجيراني"،"
رفع أبو منصور جبينه عن الأرض فشاهد "منصور" أثرا لدمعتين مكان وجه أبيه
على أرض الشارع قد اختلطتا بالتراب".
إلى
جانب ذلك نجد في قصة "الرمانة" للكاتب "محمد شريم" العديد من
التعابير التي تدلّ على التحدّي والصمود
مثل:" وما تبقّى من الأشجار المزروعة التي تغلبت على عسف الغرباء وتعاقب
السنوات بعنادها، كالزيتون والتين والخروب والصّبّار". " كم هو عنيد
وصبور هذا الصّبّار!".
وتدلّ اللّغة على ثقة الشيخ وايمانه بقضيّته
وحقّه بالعودة إلى الوطن. فيخاطب "الرّمانة"
قائلا لها:" آهٍ كم اشتهيتك في
طفولتي أيّتها الحبّة الحبيبة! وكم شعرت بفقدك طوال حياتي! هل علّمتك الأرض التي
ما زالت تنتظرنا دروس الوفاء؟ كما أنّ "أبا منصور" لم يخش رجال الشرطة بل واجههم قائلا:" قبل
أن تطلب مني المغادرة عليك أن تسأل نفسك أين زرع جدّك شجرته؟ سأغادر أرضي الآن حرصا
على ولدي وصاحبه من أذاكم.. ولكنّي سأعود إليها ذات يوم أنا وولدي أو حفيدي".
الرّموز في القصة: ظهرت في قصة "الرّمانة"
للكاتب محمد شريم عدّة رموز منها: الرمّانة، الصبار والزيتون، شخصيّة الجد، شخصيّة
الابن منصور وشخصيّة السائق.
تمثّل "الرمانة" بالنسبة للشيخ الشوق والحنين إلى الوطن أما شجرة الرّمان
فترمز إلى الثبات والتحدّي والصمود. الصبّار والزيتون أيضا رمز للتحدّي والصمود والبقاء. ترمز شخصيّة الجدّ
إلى الشعب الفلسطينيّ الذي هُجّر من وطنه حاملا معه الذكريات والشوق والحنين
والأمل بالعودة. أما الابن فيرمز إلى جيل الأبناء الذي يحمل الرسالة ويحفظها
ويرسّخها في الذاكرة. وترمز شخصيّة السائق إلى الشريحة الضئيلة من المجتمع
الفلسطينيّ التي استسلمت للواقع وتعايشت معه .
في الختام يمكن القول إنّ قصة "الرمانة"
للكاتب محمد شريم هي قصة الشعب الفلسطينيّ الذي
طُرد من أرضه، لكنّ هذا الشعب ظلّ
يحمل الحبّ والشوق والحنين والوفاء والأمل
بالعودة لوطنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق